أطلّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمس، في خطاب مفصلي تاريخي بدأ بكتابته على دفعات بعد عودته من الزيارة الخليجية. خطاب خرج عن التقليد وعن اللغة المعتمدة في مخاطبة الدبلوماسيين بالعموميات والكلام المنمّق.
اختار فخامة العماد منصة استقباله أعضاء السلك الدبلوماسي وممثلي البعثات الدبلوماسية المعتمدين في لبنان، لتكون جردة حساب لما أنجزه في الفترة القصيرة على رأس الدولة، ويقول من خلالها إنه استطاع وفي فترة زمنية وجيزة أن يعيد الانتظام لعمل المؤسسات وأن يضع عربة الدولة على السكة.
قطعت العناصر كلها التي كانت تعيش الفراغ في سدة السلطة شوطاً في إعادة تعبئتها. من الثابت أن يشكل خطابه أمس، مع خطاب القسم، دستور سلوك الرئيس عون في عهده.
أوضح ما كان ملتبساً عند البعض. جدّد الرئيس عون التزامه بقانون انتخاب جديد. خاطب القلقين من النظام النسبي. أثبت أنه لا يزال منسجماً مع نفسه ويتصرّف بيقينية أنّ الإمكانية قائمة لإقرار قانون انتخاب جديد يؤمّن الحدّ الأدنى من تطلعات الناس بالتغيير، بعيداً عن طبقة سياسية طائفية مستمرة في صراخها "الستيني"، متذرّعة بقرب انتهاء المهل الدستورية.
تحدّث الجنرال عن لبنان المتروك إلى قدره ويتوسّل إلى مشروع الدولة باعتماد النسبية. وحدها النسبية تؤمّن صحة التمثيل وعدالته للجميع. وفي الوقت نفسه أثبت أنه يعيش ردود فعل القوى السياسية ويحاول أن يُطمئن الهواجس لدى المعترضين، عندما أشار إلى خسارة البعض بعضَ مقاعدهم، ولكننا نربح جميعاً استقرار الوطن.
تطرّق أمام الدبلوماسيين إلى مواضيع داخلية تتعلّق بالسيادة اللبنانية ومشروع إعادة إنهاض الدولة. تقاطع خطاب بعبدا وبيان الرابية أمس. تناغم فخامة العماد مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
النقاط التي لم ترد في كلمة رئيس الجمهورية تضمّنتها مقررات اجتماع تكتل التغيير والإصلاح. لن يقبل التيار البرتقالي بالتمديد الثالث لمجلس النواب ولا بقانون الدوحة. "الستين" مقابل "الطائف" لا يمكن الجمع بينهما.
لكن هل لدى رئاسة الجمهورية التحالفات الكافية لكي تفي بوعدها؟ ماذا لو فرض القانون النافذ وأجريت الانتخابات على أساسه؟ هل يتّجه الرئيس عون إلى الإطاحة بالطائف وتعود الأمور إلى العام 1989، لا سيما أنّ الستين عند العونيين انتكاسة لن يقبلوا بها؟
لا يمكن فصل كلام رئيس الجمهورية أمس، عما أدلى به أمام وفد اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط في لبنان، بطرحه الوجود المسيحي في الشرق. ربط الفعالية السياسية بالوجود الطبيعي للمسيحيين. وجّه رسالة واضحة مفادها أنّ التمسك بالحقوق السياسية نوع من أنواع الدفاع عن النفس، بمعنى أنّ كلّ من يدعو المسيحيين إلى التنازل أو التراجع وكأنه يطالبهم بالانتحار.
يترقب الداخل والخارج خطاب الرئاسة الأولى أمام السلك الدبلوماسي في النصف الأول من شهر كانون الثاني من كلّ عام. قدّم فخامة الجنرال نفسه أمس، على أنه الناظر إلى كلّ حاجات لبنان وأزماته وقضايا المنطقة وموقعه الجيوسياسي تجاه محيطه. أتى بمقاربة واقعية لا تتبنّى الحياد أو النأي بالنفس.
ألقى رئيس الجمهورية المسؤولية على المجتمع الدولي بكثير مما يحصل في لبنان والمنطقة. سمّى الأشياء بأسمائها. توجّه إلى المجتمع الدولي ودول "الفوضى الخلاقة" بالقول "النيران بدأت تحرق أصابع مَن صنعها". أشار بالإصبع إلى الدول التي أنتجت هذه الفوضى. فوضى محبوكة من مشغّلين كبار. أخذ موقفاً حاسماً ممّا يُسمّى "الربيع العربي". جاءت مقاربته لملف الإرهاب لتدحض نظرية الثورات و"الشعب يريد التغيير" بقوله: "هذا يا سادة جحيم العرب وليس ربيعَهم".
قدم الرئيس عون قراءة دقيقة لوضع سورية. أثبت الحاجة التبادلية بين الدولتين في أكثر من ملف. خلق حضور السفير السوري علي عبد الكريم علي جواً إيجابياً مختلفاً. تحدّث فخامته عن الحلول السلمية للأزمة السورية. خاطب الغرب بملف عبء النازجين. أعلن تمسكه بنظرية التعاون على قاعدة إعادتهم إلى بلادهم وليس على قاعدة ترتيب وضعهم في لبنان لسنوات طويلة مثلما يتصرّف المجتمع الدولي ويرغب.
توسّع في المسألة الفلسطينية. استحوذ الشق الفلسطيني على نصف صفحة من الخطاب، وذلك رداً على مؤتمر باريس الذي أغفل الكثير من القضية المركزية.
اللافت أن مَن روّج لمقابلة الرئيس عون إلى قناة "العربية" ومسارعته إلى قرب نعي تفاهم مار مخايل. أصيب بصدمة.
جاء خطاب 16 كانون الثاني لينسف الآمال التي عُلّقت على الإطلالة التلفزيونية الخليجية. بنى هؤلاء أهراماً من الأحلام أنّ النار ستشتعل بين حارة حريك وبعبدا. أتت الكلمة لتطيح جبل الأوهام كلّه. وفق قطب سياسي بارز لـ"البناء" ليس من خطاب رئاسي مثله منذ عام 2007.
... إنه خطاب الإقدام والشجاعة. خطاب الرجل الذي يقول دائماً الحق. وهو يقوله وإنْ ارتدت يداه قفازات الدبلوماسية.